Friday, March 14, 2008

AGWA'A "Street Seller" By Dr. M. Abdelwahab A Fattah


أجواء

نداءة بائع متجول مصري

في مؤلفة موسيقية جادة

بقلم: د. محمد عبد الوهاب عبد الفتاح

الباعة المتجولين فئة من بسطاء الشعب، يبيعون سلعتهم متجولين بين الأحياء، ويقومون – من حين لآخر – أثناء تجولاتهم، بترديد بعض النداءات الغنائية البسيطة، بصوتٍ عال جميل، بهدف إضفاء عنصر التشويق والترغيب لجذب الناس لشراء بضاعتهم.

وقد قام – كاتب هذه السطور – بعمل أول دراسة على نداءات الباعة المتجولين في أكتوبر 1987، ثم ظل – كلما سنحت له الفرصة – ما يقرب من العشرين عاماً في جمع بعض المواد الموسيقية الخاصة بنداءات الباعة المتجولين، وذلك حتى يتمّكن من إستلهامها في بعض مؤلفاته الفنية.

ونداءات الباعة المتجولين، هي مقاطع غنائية قصيرة، تأخذ عدة أشكال في أدائها، فقد تكون في شكل واضح المعالم النغمية، ومتوازن في عباراته الموسيقية. أو في شكل غنائي متدفق، مواويلي الطابع، هادئ الإيقاع. وقد تقتصر النداءة على أسلوب المناداه بكلمة واحدة، أو الإكتفاء بالأداء بطريقة الإلقاء المنغّم([1]) "Recitative" الذي يتوسط حالة الأداء الغنائي والكلام العادي.

وقديماً كان يصاحب أحياناً هذه النداءات الغنائية، بعض الآلات الموسيقية أو الإيقاعية، تؤدى"لزمات" موسيقية "Passages" شيقة بين كل نداءة والأخرى، وكان هذا التقليد شائع أكثر، عند الباعة المتجولين اللذين يبيعون ألعاب ومأكولات الصغار مثل: بائعي الطراطير والدندورمة وحب العزيز.

ويُطلق – كاتب هذه السطور – على "المأثور الصوتي" الذي يؤديه الباعة المتجولين بالآلة الموسيقية فقط ، "نداءة موسيقية"، مثال ذلك بائع "غزل البنات" المتجول الذي يؤدي "نداءاته الموسيقية" على زمّارته التقليدية المميزة، أو" نداءة إيقاعية " التى يؤديها بائع القلل على "الطبلة الحُق".

شكل (1) نداءة إيقاعية لبائع القلل، صورة (1)، تتكون من عبارة، تنقسم إلى نموذجين أ ، ب.

شكل رقم (1)

بائع القلل

صورة رقم (1)

حوار في مؤلفة بائع (غزل البنات):

قام – كاتب هذه السطور – بإجراء عدة أبحاث ميدانية في مناطق شعبية متفرقة من القاهرة الكبرى، وذلك في أعوام 1987، 1997، 1999، 2004، كما قام عام 1984 بزيارة قرية "بشندي" الواقعة في قلب منطقة الوادي الجديد، وذلك في رحلة علمية([2])، نُظّمت لبعض أساتذة وطلبة أكاديمية الفنون، للتعرف على طبيعة الموسيقى الشعبية هناك.

وقد رصد المؤلف ميدانياً عددٍ من نداءات الباعة المتجولين، عن طريق تسجيلها بجهاز ريكوردر "Walkman Recorder"، كما إلتقط بعض الصور الفوتوغرافية، مما ساعده على إستلهام روح هذه النداءات في بعض أعماله الموسيقية.

كما أجرى الكاتب، عدة حوارات مع عدد من الباعة المتجولين، كان أنجحها، حوار أجراه في صيف 1999، مع أحد بائعي "غزل البنات"، إسمه فكري، صورة (2)، قابله مصادفاً، في أحد أحياء الجيزة. وقد إعتقد البائع – في أول الأمر – أن الباحث من موظفي الصحة، فتم طمأنته حتى يبدأ الحوار.. ولحسن الحظ، كان مع الباحث جهاز التسجيل المُعَّد لذلك، فقام بتشغيله فوراً بعد تحضيره. وقد تعمَّد المحاور أن تكون "دردشته" سريعة ومركَّزة، ومتداخلة مع عملية البيع التي يقوم بها البائع، حتى يحصل على أكبر قدر من المعلومات المسجلة في أقصر وقت، خاصة وأن المكان كان مزدحماً ولا يسمح بإطالة الحوار. كما تعَّمد السائل أن يحصل على إجابات بطريقة غير مباشرة مما يتيح له الحصول على المعلومات بشكل تلقائي. وفي ختام الحوار، إستحسن المؤلف أسلوب البائع في أداء "النداءة الموسيقية" التي يعزفها على زمَّارته وطلب منه أن يقوم بأداء هذه النداءات بشكل غير إصطناعي، وعندما فهم الباحث أن البائع على قدر مُرض من الثقافة، عرَّفه بأنه يقوم ببحث "غير تجاري"، إلا أن الباحث فوجئ بأن البائع يطلب منه بعد ذلك مباشرة – مقابل تكملة الحديث – مبلغ سبعون جنيهاً، فإستجاب الباحث بعد "فِصال" على إعطائه عشرون جنيهاً فقط([3]) متجنباً أن يصل البائع إلى حالة "بيع المعلومات" التي يتم تقديم المعلومات فيها عادة بطريقة "مُبالِغة". ومع شعور الباحث أن المادة التي سجَّلها في بداية الحديث، كانت أدق وأوفر، ومع تجمع عدد من المارة متزاحمين من محبي الإستطلاع، إضطر المؤلف إلى إنهاء الحوار سريعاً، بعد أن أحسّ أنه حقق منه، قدر معقول من المعلومات و "الخامات الصوتية" التي يمكن أن تفيده في إبداع عملاً فنياً بعنوان "غزل البنات".

بائع غزل البنات "منظر عام"

صورة رقم (2)

شكل (2): تدوين نداءة بائع غزل البنات، وهي عبارة عن نموذج موسيقي يتكون من نغمة واحدة فقط هي "ري" يؤديها البائع مع التغيير "Changing" صعوداً إلى نغمة "مي" يتكرر في شكل إيقاعي سريع، يقترب من طابع الزغردة "Trill" تُطعِّمَه بعض النغمات المنزلقة "Slides Notes" يتخللها عدد من "التغليقات الصوتية" النفّاذة، التي تصدر تلقائياً من إحدى نغمات السلسلة الهارمونية الموجودة في عامود هواء الآلة.

شكل رقم (2)

أما العمل الموسيقي الذي إستوحاه المؤلف من حواره مع بائع "غزل البنات"، هو عملاً موسيقياً، "صوتياً بصرياً" يحمل نفس العنوان "غزل البنات"، عُزِفَ للمرة الأولى "Premier" في الثلاثين من يونية عام 2000، في المسرح الصغير، بدار الأوبرا المصرية، ويُعرض أثناء أداء موسيقى العمل، صور سلايدز مأخوذة ميدانياً من مكان الحوار الذي تم مع بائع غزل البنات.

وتتكون المؤلفة "غزل البنات" من ثلاثة أجزاء:

الجـزء الأول: بَث على الجمهور، عبر السمَّاعات، جانب من الحوار الذي تم تسجيله مع البائع.

الجـزء الثاني: بَث أجزاء من النداءات الموسيقية التي سجَّلها البائع على زمّارته.

الجزء الثالث: عـرض شرائح سلايدز مُكبَّرة على شاشـة المسرح خلف أماكن جلوس العازفين، أثناء عزف قطعة موسيقية، مكتوبة لآلة الطرومبيت سيb، في مقام النهاوند على مي، بمصاحبة أوركسترا حجرة مصغر، بالإضافة إلى آلة الماريمبا والرق والدَرَبُكَّة.

وتقوم المادة الموسيقية في اللحن الأساسي لهذا العمل، على ثلاثة نغمات فقط هم: (صول – لا – سي)، حيث نقل المؤلف إلى موسيقاه، ما رصده من "شُحّة" النغمات في النداءة الأصلية، شكل (2)، معتمداً في تأليفه على كتابة ألحان مختزلة نغمياً ونشطة إيقاعياً، تزداد فعاليتها مع إضافة بعض الضغوط المؤجلة "Syncopation Accents" على أشكالها الإيقاعية، مما يعكس روح المرح والدعابة الموجودة في النداءة الأصلية.

وقد تعَّمد المؤلف أن يعطي آلة الطرومبيت الدور الرئيسي لأداء الألحان، لأنها أقرب آلات النفخ شبهاً إلى زُمّارة بائع غزل البنات، صورة (3). ويوضح شكل (3) ثلاثة أمثلة من الألحان التي إستوحاها المؤلف من العمل في النداءة الأصلية للبائع:

لحن (أ): يقوم هذا اللحن على إستخدام نفس نغمتي النداءة الأصلية (ري – مي) - المكونتان لمسافة الثانية الكبيرة الصاعدة – مصوَّرة رابعة تامة هابطة إلى نغمة (لا)، مع قلب إتجاه المسافة لتصبح هابطة، وإستخدام أشكال إيقاعية سكنوبية، مكوَّنة نموذجاً لحنياً، يغلب عليه الطابع الإيقاعي، ومقتصر جداً في النغمات. وتُعتبر نغمة (سي) هي النغمة الوحيدة الجديدة "Episode" على نغمتي أصل النداءة.

لحن (ب): يتَّكون بنفس الأسلوب السابق، وهو الإعتماد على تأليف لحن مقتصر نغمياً على نغمتي النداءة، كما يتميز ببعض الأشكال السنكوبية، مع الإلتزام بنفس إتجاه مسافة الثانية الكبيرة الصاعدة الموجودة في الأصل، وإضافة نغمة (سي) الإبيسودية.

لحن (ج): يتكوَّن بعكس الأسلوب السابق، وهو تأليف لحن عن طريق تثبيت نغمة (سي) - فيما عدا القفلة -، مع تنشيط العنصر الإيقاعي، في تتابع منتظم شبه متكرر يعكس النمط البسيط الموجود في أصل النداءة، ويتكون من موتيف إيقاعي واحد هو: الكروش واثنين من الدوبل.

شكل رقم (3)

زمّارة بائع غزل البنات

صورة رقم (3)

تدوين بعض نداءات الباعة المتجولين:

تعتبر مرحلة تدوين الموسيقى الشعبية، من أهم المراحل التي تساعد المؤلف الموسيقي على إستخدامها، بشكل تقني جيد في عمل موسيقي جاد. وكاتب هذه السطور كان يعتمد منذ أواخر الثمانينات، في تدوين ما يسجّله ميدانياً من نداءات، على جهاز التسجيل المنزلي العادي "Normal Cassette" المزود بالبطاريات، وهو جهاز غير عالي الجودة، بالنسبة للموديلات الحديثة التي تتميز بدقة كفاءتها وصغر أحجامها. كما كان المؤلف يستخدم نفس جهاز التسجيل لتدوين المادة الموسيقية المسجلة، بالرغم من تواضع إمكاناته في الإعادة وتبطيء السرعات، والمونتاج.

وبعد عودة الباحث من البعثة في النمسا 1997، إستخدم جهاز تسجيل رقمي صغير عالي الجودة، في تسجيل المادة الصوتية الخاصة بنداءات الباعة المتجولين. أما عملية "التدوين"، فكان الباحث يستخدم فيها الحاسب الآلي بعد نقل المادة الصوتية المسجلة إلى إحدى برامج الكمبيوتر "Software" المتميزة في مجال التسجيل والمونتاج، وتُعرف باسم "Pro-tools"، مما سهّل من مهمة التدوين، وجعلها أكثر دقة، في تحقيق المأثور الموسيقي الشعبي على الورق.

وفي تلك الحالتين، يتبع كاتب هذه السطور، في تدوين الموسيقى الشعبية المسجلة، طريقة هورنبوستل
"
Hornbostel"([4]) المعروفة بمصطلح "التدوين السمعي""Transcription" بمعنى تحويل "النداءة" – عن طريق الأذن المجردة – بكل دقة من "مأثور مسموع" مُسجَّل، إلى نوتة موسيقية مكتوبة على الورق، بأسلوب التدوين الغربي الذي يعتمد في كتابته على المدَّرج الموسيقي المتكوّن من خمسة خطوط أفقية.

ويعتبر هذا التدوين – مهما وصل من إتقان – ما هو إلا رسم بياني تقريبي للحن النداءة، لأن النداءة الأصلية الحقيقية، لا يؤديها إلا صاحبها فقط، ومهمة هذا التدوين الحقَّة، هي كتابة الهيكل العظمي للحن النداءة، مضاف عليها بعض التفاصيل التي يمكن تدوينها، وتترك إضطراراً حليات الزخارف "Melismatic Ornamants" التي يستحيل تدوينها بالضبط كما هي موجودة في أصل النداءة المسموعة.

ويجب أن نُفرِّق بين إستخدام الحاسب الآلي في "التدوين الآلي"، وإستخدامه في تشغيل المادة الصوتية لتدوينها عن طريق الأذن البشرية.

إستخدام الكمبيوتر في التدوين الآلي:

هو نقل مادة موسيقية ما – نقلاً رقميا، سواء كانت مسجلة أو حية (إلكترونية أو تقليدية) – إلى أحد برامج التدوين الموسيقي "Musical Notation Software" ليقوم بتدوينها بدقة "آليا" (من تلقاء نفسه) – دون تدخل الإنسان في ذلك – وبالرموز الخطية التي يفهمها الموسيقيون.

إستخدام الكمبيوتر في التدوين التقليدي:

هو إعادة تشغيل المادة الصوتية المسجلة من خلال أحد برامج الكمبيوتر حتى يتم تدوينها "يدوياً" عن طريق الاستماع إليها بالأذن البشرية المجردة، بطريقة([5]) هورنبوستل.

ويرى كاتب هذه السطور، أن إستخدام برامج التدوين الموسيقي، في تدوين الموسيقى الشعبية، لا يغني إطلاقاً عن استخدام الأذن البشرية المجردة في مسألة "التحقق" من صحة المدونة الموسيقية الشعبية، فبالرغم من أن الحاسب أكثر دقة من أذن الإنسان في "التعريف الآلي" على قيمة ترددات "Frequences" النغمات غير الثابتة "Untemperament Tones" الشائعة في الموسيقات الشعبية، إلا أن الإنسان بموروثاته الثقافية والوجدانية، قادر على تحديد روح المادة الموسيقية الشعبية بطريقة أكثر حسماً.

ويحتاج تدوين نداءات الباعة المتجولين، إلى "مُدوِّن" مُدرَّب كُفء، يستطيع تحديد التفاوت في السرعات الإيقاعية "Tempos"، وتمييز الفروق البسيطة الموجودة بين الأبعاد الموسيقية الطبيعية "Natural Intervals"، وبالتالي التعرف بسهولة على الملامح المقامية المكوِّنة للنداءة.

شكل (4) يوضح نداءة غنائية (مُدوَّنة عام 1987)، لأحد بائعي القصب – يندر انتشارهم اليوم – وتظهر "اللكنة" الصعيدية واضحة في مقولته: " يا جصب يا جصب"

ولحن النداءة في نسبة السيكاه على نغمة (لا) نصف بيمول، وهو من عبارة تتكون من نموذجين ناطقين (أ،ب) وثالث صامت (ج)[ راجع صيغة النداءة]، وهما مشتقان من بعضهما البعض، بحيث يكون الثاني به نوع من الزحزحة بالنسبة للنموذج الأول. بمعنى أن نغمات (لا) نصف بيمول و(سي) بيمول، و(دو) جاءت في النصف الثاني من النموذج الثاني في أماكن ضغوط مختلفة عما جاءت في النموذج الأول. أما المسار اللحني فهو في مجمله صاعد ويتكون من ثلاث نغمات:لانصف بيمول-سى بيمول-دو.

ويُفَضِّل المؤلف في جزئية تدوين العنصر الإيقاعي، أن يبدأ "المّدوِّن" باكتشاف ميزان النداءة الموسقية "Time Signature"، ثم تحديد أشكالها الإيقاعية والضغوط الرئيسية المسيطرة عليها، مع حسم مسألة تغيير الميزان، والتعرُّف على الإيقاعات السنكوبية أو الضروب العرجاء "Irregular" إن وجدت.

وإذا كانت النداءة "حرة الإيقاع" ذات طابع مواويلي "Improvisational Type"، يجب تدوينها غير موْزونة، لعدم وجود مبرر لتقسيمها إلى موازير متساوية "Equal Measures"، كما يُفضَّل في ذلك كتابة النداءة الحرة، بدون إستخدام خطوط الموازير "Bars".

ويرى الباحث، أن كتابة بعض الملاحظات الخاصة بطبيعة كل نداءة، سوف يساعد المؤلف على فهم خصائصها الفنية، مما يسهَّل مهمته في إستثمار عناصرها الموسيقية، في تأليف عمل موسيقي فني، يجمع بين التعبير الإنساني الصادق والأسلوب العلمي الجاد.

ومن ناحية أخرى، تحتاج تقنية التدوين الموسيقي "للمأثور الصوتي الشعبي"، إلى وقتٍ كافٍ من التدريبات العملية – السمعية والصولفائية "Solfege" – تُدرَّس بطرق علمية، يتمكن المتخصص من إتقان أصولها.

بائع القصب

شكل رقم (4)

وينصح الكاتب أن تراعى بعض التقاليد الفنية عند تدوين إحدى نداءات الباعة المتجولين، أذكر منها:

1- كتابة عنوان النداءة، مع معرفة طبيعة البائع والسلعة التي يبيعها، وتأثير ذلك على الناحية الموسيقية.

2- التعرف على النداءة من ناحية "اللون الصوتي"، بمعنى تحديد نوعية النداءة، من حيث إنها نداءة غنائية أم موسيقية أم الاثنين معاً، وإذا كانت موسيقية، هل هي لحنية أم إيقاعية، وما هو اسم الآلة الموسيقية "Instrumentation" التي تعزفها، أو التي تصاحب النداءة الغنائية في أدائها.

3- كتابة تاريخ ومكان النداءة الذي سُجِّلت فيه النداءة.

4- بالنسبة إلى "مقولة النداءة"، تُدوَّن مرتين: الأولى، تكتب بمفردها وكاملة كما هي في الأصل. والثانية، تكتب بالإنجليزية أو العربية فوق المدوَّنة الموسيقية بأسلوب "التقطيع"، الذي يُقطّع فيه كلمات النداءة الغنائية إلى حروف، ويُكتب كل حرف على النغمة التي يُؤدَّى منها. ولا يشترط أن تُدَّون النداءة الغنائية، في شكل دائم من الكروشات، وخاصة عند غناء حروف المدّ ذات الامتدادات الطويلة بما يشبه الآهات "Vocalise"، ويُكتفى تدوين لحن النداءة الغنائية في كروشات عند مواضع الضرورة فقط، مثل الأماكن التي تتكاثف فيها حروف كثيرة، من إحدى كلمات النداءة، لأنها تغني في مدد زمنية قصيرة نسبياً.

5- تحديد المُدة الزمنية الكُلية للنداءة بوحدة الثواني التي يستغرقها أدائها مرة واحدة فقط.

6- إلاهتمام بكتابة السرعة "Tempo" في بداية كل نداءة، مستعيناً بجهاز المترونوم "Metronome"([6]) لتحديد ذلك بدقة متناهية.

7- يجب تدوين النداءة في منطقتها الصوتية([7]) التي أديت فيها، وذلك عن طريق التحديد الدقيق لنغمة درجة البداية "Pitch" التي يبدأ منها لحن النداءة.

8- تُدَّون النداءة عادة على مدرج مفتاح الفيولينة، مُرفقة بالتحليل الذي يُكتب على خط منفصل أو أكثر، أعلى أو أسفل تدوين النداءة الأصلية، مع رسم خطوط رأسية تُبين العلاقة بين تدوين النداءة وتحليلها شكل (5).

9- إستبعاد فترات الصمت غير الموسيقية، التي لا تتدخل في تكوين النداءة، مع الإهتمام بالسكتات الموسيقية التي تدخل في صميم تكوين النداءة، مع العناية بتدوين زمن السكتة الموسيقية الصحيح بدقة.

ويوضح شكل (5) مثال من مدَّونات أحد بائعي الكرنب المتجولين.

شكل رقم (5)

ملاحظات على مدونة نداءة بائع الكرنب:

أولا: ملاحظات عامة:

1- سجلت هذه النداءة عام 1987 في أحد شوارع الجيزة.

2- البائع، كان يمر من نفس الشارع يومياً صباحاً ويؤدي نفس النداءة ومقولتها باللغة الدارجة:

"يا كرمب.. يا بلدي يا كرمب".

ثانيا: ملاحظات موسيقية:

1- المقام: بياتي الكردان.

2- النطاق الصوتي: رابعة تامة( 4 ت من سي نصف بيمول حتى مي نصف بيمول).

3- الأبعاد الموسيقية: لا تخرج عن المسافات السليمة صعوداً وهبوطاً.

4- الطبقة: تينور عربي.

5- الصيغة: عبارة موسيقية من 4 نماذج (أ، ج) "ناطقين"، (ب، د) "صامتين".

تحليل أحد النداءات الغنائية:

إن عملية إبداع "مؤلفة موسيقية" مستلهمة من المأثور الموسيقي الشعبي، تبدأ من لحظة تحليل هذا "المأثور"، وهي أول مرحلة في مراحل الإبداع، التي يقوم بها المؤلف بنفسه، حتى يضمن الحصول – من هذا المأثور- على تفسيرات علمية غير مُكررة، تُعبّر عن ذاته، وترتبط بشخصيته الإبداعية. وفي نفس الوقت، تفيده في تحقيق هدفه الفني، الذي يختلف من مبدع لآخر.

وأول خطوة في التحليل هي "تفصيص" النداءة إلى عنصري "نغم وإيقاع"، حتى يُمكن الإستفادة من خصائص كل منهما على حدة:

1- النغم: معرفة كل ما يخص النغمات مثل: المسار اللحني، والنطاق الصوتي، والأبعاد الموسيقية والمقام.

2- الإيقاع: دراسة العلاقات الزمنية مثل: النبض (الميزان)، والتفاوت الزمني في النغمات (الأشكال الإيقاعية)، وأماكن الضغوط وعلاقاتها بنص النداءة (إذا كانت غنائية).

وقد حلل الباحث "نداءة غنائية" لأحد بائعي البطاطس، شكل (6)، وهي تتكون من ثلاثة مقاطع: مقطعين أساسيين (أ ، ب)، ومقطع ختامي (ج).

(أ) حلاوة يا بطاطس. (ب) ياللي تشوي البطاطا.

(ج) بطاطا بلدي ياللي تشوي.

شكل رقم (6)

ويتكرر مقطعي (أ، ب) عدة مرات، بينما المقطع الختامي (ج)، لا يتكرر إلا بين الحين والآخر، ويستغرق أداء النداءة حوالي 15 ثانية، وهو زمن أداء مقطعي (أ، ب) مرة واحدة بدون حساب المقطع الختامي (ج)، لأنه كما ذُكر سابقاً يُؤدّى بين الحين والحين.

ويتكون لحن النداءة من جملة موسيقية، تتكون من ثلاث عبارات لحنية "Phrases": (أ، ب، ج)، كما تتكون كل عبارة من نموذجين "Figures"؛ الأول: نموذج لحني ناطق (Aأ)، الثاني: نموج صامت (Aب) [راجع صيغة النداءة]، يمثله السكتة الطويلة التي تتبع نموذج (Aأ) يتكرران مرتين، صعوداً أو هبوطاً، مما يكون ثلاث نغمات فقط هم: (صول، لا سي).

ويتميز كل نموذج (A) من العبارات الثلاث (أ، ب، ج)، بإختلاف نغمة البداية التي يبدأ منها.

أما المسافة الموسيقية الحقيقية المسيطرة على هذه النداءة الغنائية هي مسافة الثانية الكبيرة، تظهر واضحة في الهيكل الأساسي للحن النداءة. شكل (6).

وهناك علاقة شبه عكسية "Semi-inversion" في المسار اللحني، بين نموذج (Aأ)، ونموذج (Aب)، مما يخلق حالة توازن فيما بينهما، حيث يبدأ نموذج (Aأ) بالاتجاه اللحني الصاعد الذي يشبه "تفتح الزهور" وينتهي هابطاً بما يشبه "سقوط الثمار"، بينما نموذج (Aب) يتجه عكسياً هبوطاً وينتهي صعوداً وهو يشبه حالة "إزدهار أوراق النبات". أما نموذج (Aج) الختامي، وهو ينتمي إلى نموذج (Aب)، يتتابع في سيكوانس "Sequence" هابط (2ك) من نموذج (Aب)، مع تصرف طفيف في تفاصيل مساره اللحني، لينتهي إلى أساس جنس العجم (صول) بما يشبه العودة إلى "الجذور". وهناك إحساس قوي بأن نموذجي (Aأ ، Aب)، يمثلان معاً السؤال، بينما يمثل نموذج (Aج) الجواب.

ويرى المؤلف العنصر الإيقاعي من منظور، تفاوت مدد الأشكال الإيقاعية، بما يخلق علاقات زمنية هي التي تحدد الشخصية الإيقاعية لأي لحن، مع مراعاة النطاق الإيقاعي بين أصغر وحدة وأكبر وحدة إيقاعية في النداءة، شكل (7).

ويرمز بأصغر وحدة إيقاعية بشرطة قصيرة (ـ) تختصر إلى حرف (ق).

و بأكبر وحدة إيقاعية بشرطة طويلة (ــــ) تختصر إلى حرف (ط).

كما يرمز لكل ما بينهما (الأصغر والأكبر) بشرطات متفاوتة نسبياً في الطول أو القصر، ويرمز لهم بشرطة متوسطة الطول(م).

شكل رقم (7)

ولاد البلد:

كتب المؤلف عملاً موسيقياً، يصاحبه عرض سلايدز، بعنوان "ولاد البلد"، تعبيراً عن الطبقة الكادحة التي ترتبط أغانيهم بطبيعة عملهم الشاق، صورة [(4)، وصورة (5)]، وقد عزف أوركسترا الكونسيرفتوار لآلات النفخ، هذا العمل بقيادة د. مجدي بغدادي لأول مرة "Premier"، في مسرح الجمهورية أول مايو 2000.

بائع الترمس

صورة رقم (4)


بائع السَكسونيا

صورة رقم (5)

بائع الساكسونيا

صورة رقم (4)

ويتكون الأوركسترا في هذه المؤلفة من ثلاث مجموعات آلية (الخشب Wind، النحاس Brass، والإيقاع Percussion): فلوت Flute، كلارنيت سb Clarinet، فاجوط Fagott، طرومبيت سb Trompet، كورنو فا Horn، طرومبون Trombone، توبا Tuba، ماريمبا Marimba، باص درام Bass Drum، سيمبال Cymbal، طبلة رق Tambourine، توم توم Tom-tom.

وقد قصد المؤلف الإستعانة بأوركسترا آلات النفخ والإيقاع، نظراً لقدرة هذه الآلات
– بألوانها الصوتية اللامعة – على رسم أجواء موسيقية ذات طابع غنائي ندائي "
Fanfare"، تشيع روح التفاؤل، وخاصة النحاسيات منها، يبرز من بينها صوت آلة الطرومبيت "المتباهي" "Flourish"، التي أعطاها المؤلف دور البطولة في أداء ألحان "ولاد البلد" الندائية "Trumpet-call".

وتقوم فكرة العمل الأساسية على نسج عدد من الألحان المقامية المبهجة فوق طقم إيقاعي "Ostinato" مألوف في الموسيقى العربية، ويُعرف في اللغة الدارجة باسم "واحدة ونصف"، ورصده المؤلف عند بائع القلل والطبل، شكل (8).

بائع القلل

شكل رقم (8)

إعتمد المؤلف – في كتابة ألحان هذا العمل – على المسافات المتقاربة التي تتميز بها نداءات الباعة المتجولين، مثل: مسافات الثانيات والثالثات الصاعدة والهابطة، بحيث تكوّن أجزاء غير مكتملة من الأجناس العربية مثل: النهاوند والحجاز كار، تدور في نطاق ضيق إلى حد ما. ويوضَّح شكل (9) كيفية تعامل المؤلف مع نداءة مندثرة لبائعة الكحك (لم يعد لها وجود الآن ومكتوبة من التواتر الشفهى) حيث إستغل مسافة الثانية الكبيرة، الموجودة في هذه النداءة، في كتابة لحن كامل قائم على مسافة الثانية (الكبيرة والصاعدة) في شكل سلمي صاعد هابط، تؤديه آلة الطرومبيت سي بيمول في بداية العمل بنفس عبق النداءة المندثرة.

شكل رقم (9)

الخصائص الموسيقية العامة لنداءات الباعة المتجولين:

هناك عوامل كثيرة بيئية وتاريخية، تؤثر في تحديد الخصائص الموسيقية لنداءات الباعة المتجولين، وقد لاحظ الباحث في الفترة ما بين (1987-2006)، أن بعض النداءات إختفت تماماً بسبب إنقراض بيع سلعتها مثل: الحرنقش والدومة، وقد توارت نداءات الباعة المتجولين اليوم، كقيمة فنية أمام قيمتها النفعية، وذلك يرجع إلى التطور الحضاري والثقافي الذي طرأ على المجتمع، وتغيير سلوك الناس الاقتصادي، خاصة بعد انتشار محلات السوبر ماركت والتسوق عبر الإنترنت.

وهناك نداءات بقيْت، ولكن حالها تغيرَّ، وطرأت على خصائصها، صفات قللت من قيمتها الفنية، حتى أصبح أدائها أكثر تعجلاً، وأقل غنائية، حيث يستخدم بعض الباعة المتجولين الآن مكبرات الصوت في نداءاتهم. وبشكل عام أصبحت أقرب إلى طابع "المناداة" التي يتميز بها "تباعين" سيارات الميكروباص اليوم.

1- الشخصية الصوتية المميّزة:

تتميز نداءات الباعة المتجولين بصفة "التفرد"، وذلك لإرتباط كل نداءة ببائع متجول معين، يبيع نوع محدد من السلع، وهذا يعني أن لكل بائع "نداءة" خاصة به، تتصف بخصائص موسيقية "متفردة" لا تُسمع إلا من خلاله.. فمثلاً الناس يتعرفون "سمعياً" على بائع العرقسوس، صورة (6)، عندما كما يسمعون "نداءاته الإيقاعية" وهو يؤديها على إثنين من الصاجات المميزة برناتها اللامعة، شكلى (10)أ، (10)ب ندائتين مختلفتين لبائع العرقُسوس. كما يتعرف الأطفال على بائع "غزل البنات"، صورة [(3) ، صورة (7)]، من خلال صوت زُمّارته.

شكل رقم (10)

بائع العرقسوس

أجيال متعاقبة من بائعى غزل البنات

صورة رقم (6)

صورة رقم (7)

2- الإيقاع:

تتميز نداءات الباعة المتجولين بصفة "تكرار" نموذج لحني، يغلب عليه الطابع الإيقاعي الحاد " Sharp" ، يدور في إطار ضرب إيقاعى موْزون "metric" ، يتكرر بأسلوب الطقم "Ostinato يتجدد في "نوبات" يتخلله فترات سكوت، مما يكوّن شكل دائري دائم من "المتوالية الموسيقية".

وتؤدّى النداءة غالباً في إيقاع منتظم "Regular" واضح العبارات والميزان الموسيقي، وذلك يرجع إلى أن البائع يؤدي نداءته أثناء المشي، ويأخذ الوحدة المنتظمة من خلال خطوات سيره، شكل (11)، نداءة بائع حب العزيز.

شكل رقم (11)

3- صيغة النداءة:

تتكون النداءة الموسيقية - سواء كانت موسيقية أو غنائية – من نموذج لحني واحد "One Figure"، محدود النطاق الصوتى"Narrow Range"، لا يتجاوز بُعد الخامسة التامة، يتكرر بتصرف مرتين أو ثلاثة، وكل نموذج يتبعه لحظات من السكوت، مكوناً معاً، عبارة لحنية واحدة، لا يستغرق أداؤها في المرة الواحدة، أكثر من ثوان معدودة.

وفي أحيان كثيرة تنقسم النداءة إلى شطرين، بما يشبه التقسيم الثنائي (أ، ب) "Binary"، مكوناً حالة متوازنة من "السؤال والجواب" فيما بينهما.. وأحيان تمتد النداءة إلى ثلاث عبارات، تشبه العبارة الثالثة منهم، إحدى العبارتين الأولتين، مما يكوّن شكلاً ثلاثيا (أ ب ب) أو(أ ب أ) "Ternary". وفي أحيان أخرى تتكون النداءات من نموذج لحني واحد أساسي، يتكرر حرفياً أو بتصرف مع وجود نماذج لحنية أخرى جديدة "Episodes" تتخلله، مما يكوّن شكلاً دائرياً (أب أج أد أ) "Rondo" ولهذا نرى أن الأساس في صيغة النداءة، هو تكرار نموذج لحني واحد يتخلله نماذج مُنوعة عليه "Variations" تكسر حدة الملل دون المساس بجوهر النداءة الأصلي، شكل (12).

ومما هو جدير بالملاحظة في صيغة النداءة هو إرتباط النموذج اللحني دائماً بسكتة موسيقية تتبعه، وهذا يعني أن هذه السكتة تدخل في بناء النداءة ككل.

ونظراً لهذا الارتباط الوثيق بين النموذج والسكتة، سمّي – كاتب هذه السطور – النموذج اللحني الاساسى "بالنموذج الناطق"، والسكتة التي تليه "بالنموذج الصامت"، وتتابع كل من النموذجين يكونان معاً العبارة اللحنية المميزة للنداءة.

وقد فرَّق كاتب هذه السطور بين نوعين من الفراغ الصوتي في النداءة:

1- الأول: السكتة الموسيقية "النموذج الصامت"، وهي المكََّونة للجزء الثاني من عبارة النداءة.

2- الثاني: فترات صمت، لا تدخل في تكوين البناء الفني للنداءة، وهي فترات قد تطول أو تقصر تبعاً لظروف ، إنشغال البائع بعملية البيع.

شكل رقم (12)

4- وضوح الملامح المقامية:

تُغنى النداءة في أحد أجناس المقامات العربية غير المكتملة، سواء المحتوية على أرباع التون أو الخالية منها "Maqamic Model" مع قوة ركوز درجة الأساس "Tonic". وتتميز الأبعاد الموسيقية بوجود فروق بسيطة في ترددات "" بعض النغمات تختلف من مغني لآخر، وهو ما يُعرف بالنغمات غير المعدَّلة "Unterperament Tones"، وتنتمي معظم نداءات الباعة المتجولين في مصر إلى أكثر الأجناس الموسيقية إنتشاراً في وعي الشعب المصري مثل: نسبة السيكاه، وأجناس الراست، والنهاوند، والبياتي، ويوضَّح شكل (13)، نداءة "مُدوّنة" من ذاكرة المؤلف، استرجعها من خلال المخزون الثقافي الشعبي المتكوَّن لديه في منذ الصغر هذا المجال. وتتميز النداءة بمسافة الثانية المتوسطة (2م) الصاعدة الموجودة في بداية جنس البياتي، ونص مقولتها: "ذي زمان يا تين ستة بقرش".

بائع التين الشوكي

شكل رقم (13)

5- مقولة النداءة:

يتكون نص النداءة من عدد محدود من الكلمات، تُنظَّم في مقولة تتكون من شطرين أو ثلاثة، تعكس ملامح الطبقة الكادحة التي تؤدَّيها، ويغلب على أدائها نوع من "اللكنة" غير المدنية، وذلك لأن معظم مؤديها من الباعة، نازحين من بلدان أخرى شمال وجنوب القاهرة الكبرى.

وأهم صفة تحكم مفردات نص نداءات الباعة المتجولين، هي طبيعة السلعة التي يبيعونها، وبشكل عام، هناك روح من المرح والطرافة، تُغلّف أبجدية النص، يخالطها نوع من التمثيل في الأداء الغنائي، مع شيء من المبالغة في التشبيهات الكلامية. والبائع يختار بتلقائية كلمات المقولة التي تترك نوعاً من الجاذبية لدى الشاري مثل قوله: "فل يا نعناع"، "البلدي يوكل"، "يا بلدي يا للي تشوي.

شكل (14)، مقولة من بائع البطاطس والبطاطا والبصل رصدت عام 1987، ونص مقولته:

بـطاطــا بلــــدي بصل بلدي بـريال

بلدي ياللي تشوي البطاطا بصل يا بطاطـس

بائع البطاطا والبطاطس والبصل

شكل رقم (14)

6- لحن النداءة:

تتوقف طبيعة لحن النداءة على مقولة نص كلماتها، بمعنى أن اللحن هو الذي يُشتق - طبيعياً بطريقة مقطعية – من تفصيلات وتفعيلة كلمات نص المقولة، شكل (15)، مع استغلال تام لحروف المدّ المتحركة التي تظهر في مناطق "اللعلعة" أو الذروة "Climax"، وبذلك تتشكل – في اللحن – الإمتدادات النغمية من تلقاء نفسها، مما يخلق تطابق تام بين لحن النداءة والمقاطع الكلامية المكوَّنة لها، وقد تتغير مقولة النداءة مع ثبات نفس اللحن، أو يتم التغيير في قفلتها فقط.

شكل رقم (15)

أجــواء:

يتفاعل المؤلف دائماً مع البيئة الموسيقية الشعبية التي يعيش فيها، متأثراً بتقاليدها ومستلهماً روحها في أعماله الفنية الجديدة. ومؤلفة أجواء، المكتوبة للأوبوا المنفردة، (عُزفت لأول مرة "Premier" بالمسرح الصغير في دار الأوبرا المصرية)، من الأمثلة الجيدة التي ألفها – كاتب هذه السطور – متناولاً إحدى نداءات الباعة المتجولين فيها، وهي نداءة بائع الدندورمة التي مازال المؤلف يذكرها بعد أن كان يسمع البائع يرددها دواماً في أيام الصغر، بطريقة هادئة طريفة، ومميزة جداً، منادياً: كاسا تلكلوكلو

وتتميز هذه النداءة الغنائية بمسافة الثانية الكبيرة الصاعدة (2ك )، كما تتميز بوجود علاقة إيقاعية واضحة بين الإمتداد والقصر الزمني، شكل (16).

أما التقنية الرئيسية التي إستخدمها المؤلف في هذا العمل هو تصوير مسافة الثانية الكبيرة الموجودة في أصل النداءة، خامسة تامة صاعدة، من نغمة (ري) إلى نغمة (لا)، وذلك لأن آلة الأوبوا تستطيع أداء عدد من الألوان الصوتية الشيقة، فضلاً على حلاوة الصوت، وتنوع تقنيات العزف في هذه المنطقة الصوتية من الآلة.

وقد اعتبر المؤلف نغمة (سي) هي النغمة الرئيسية في هذا العمل، ونغمة (لا) نغمة "تابعة"، مستلهماً أفكاره اللحنية مباشرة منها، دون اللجوء إلى الأسلوب التقليدي الذي يعتمد في بناء الألحان على تتابع المسافات الموسيقية، وهي طريقة تعتبر كل نغمة موسيقية هي "وحدة لحنية" في حد ذاتها. ولذلك أسس المؤلف ألحانه على نغمات متناثرة ومصوّرة في نغمات تخدم أداء عزف آلة الأوبوا مثل نغمات: (ري، فاديز) مستخدماً – كلما أمكن – مهارات عزف صعبة وغير تقليدية – تْؤدَّى عادة في الوتريات - مثل: الإنزلاق النغمي "Glissando"، والنغمات الربعية "Quarteral Tones"، والعفق المزدوج "Multiphonics".

شكل رقم (16)

ويقوم الجانب الإيقاعي في مؤلفة أجواء على تجريد النغمات من أشكالها الإيقاعية التقليدية، وذلك بهدف خلق "جماليات إيقاعية" جديدة، لا تتقيد برتابة الميزان الموسيقي الموتوري "Motor"، وتعتمد على منطق "التفاوت الزمني" في امتداد النغمات بين الطول والقصر. وبذلك يمكن إذابة جليد العقلية التي تُقدسَّ الميزان الموسيقي بإعتباره هو أحد أدوات النسق الإيقاعي وليس كله.

وبهذا الأسلوب أمكن استنساخ ألحان أبيسودية جديدة، ولكنها تحمل نفس الصفات الوراثية الكامنة في النداءة الأصلية، وذلك عن طريق "استبدال" النمط الإيقاعي التقليدى الموجود في النداءة الأصلية، بعناصر إيقاعية نسبية، يحكمها فقط علاقات زمنية تقريبية بين نوعين من العنصر الإيقاعي هما: (أ) امتداد زمني طويل (ط)؛

(ب) امتداد زمني قصير (ق)، شكل (16).

كما أمكن إبداع ألحان جديدة في هذا العمل عن طريق منطق "ترميم الأثر"، حيث تم التعامل مع النداءة الأصلية على انها "أثراً موسيقياً، أو بمعنى أدق "مأثور صوتي شعبي"([8])، يحتاج إلى تكملة الأجزاء المفقودة منه.

وقد تخيل المؤلف أن الجزء المفقود من النداءة، لابد أن يُكتمل بموتيفات "Motives" نشطة وحرة الحركة، مما يخلق تضاد وتوازن داخلي في آن واحد بين اللحن الأبيسودي المتموَّج وأصل النداءة الهادئ العتيق، يتناغمان معاً في نسق واحد جديد.

أما "المدونة الموسيقية"، في هذه المؤلفة، فهي مكتوبة بطرق غير تقليدية، تعتمد على أساليب التدوين الحديثة، التي تزخر بالرموز الخطية "Graphic Symbols" بما يتفق مع الحالة العامة التي حاول المؤلف رسمها في هذا العمل، تتركز في إبتكار ألحان سلسة ومتدفقة، تتمتع بعلاقات نسبية تقريبية فيما بينها، كما تُقرّب المستمع من عالم صوتي جديد، يعبر عن "أجواء" تجمع بين إنطباعات الإنسان الشخصية وموروثاته الثقافية والتاريخية.







أجـــواء

للأوبوا المنفردة

شكل رقم (17)


المراجع

1- أحمد رشدي صالح: فنون الأدب الشعبي، الجزء الثاني، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1971.

2- أحمد علي مرسي: حول المأثورات الشعبية، مقال، مجلسة الفنون الشعبية، عدد 19، القاهرة، 1987.

3- بريجيت شيفر: واحة سيوة وموسيقاها، رسالة دكتوراه، جامعة فريدريش، فيلهلم، برلين، ترجمة جمال عبد الرحيم، مراجعة وتقديم، سمحة الخولي، إشراف الإصدار، صفوت كمال، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 1996.

4- صفوت كمال: إستبيانات العمل الميداني، مقال، مجلة الفنون الشعبية، عدد 19، القاهرة، 1987.

5- صفوت كمال: المأثورات الشعبية، مقال، مجلة الثقاقة، القاهرة، 15/10/1983.

6- جمال عبد الرحيم: التناول المعاصر للأغاني الشعبية في التأليف الموسيقي في مصر، مقال، مجلة الفنون الشعبية، عدد 19، القاهرة، 1971.

7- محمد محمود الجوهري: علم الفولكلور – الجزء الأول، الأسس النظرية والمنهجية، الطبعة الرابعة، دار المعارف، القاهرة، 1981.

8- محمد محمود الجوهري، عبد الله الخريجي: طرق التنمية الاجتماعية، الطبعة الرابعة، دار الثقافة، القاهرة، 1983.

9- محمد عبد الوهاب عبد الفتاح: بحثين ميدانيين في مناطق متفرقة بالجيزة، أكتوبر/نوفمبر 1987، سبتمبر 1999.

10- محمد عبد الوهاب عبد الفتاح: مشاهدة الصوت، دفاتر أكاديمية الفنون، القاهرة، 2005.

11- MICHELS, Ulirich: Atlas Zur Musik. Deutscher Taschenbuch Verlag , Müchen, 1985.


السيرة الذاتية

د. محمد عبد الوهاب عبد الفتاح

· أستاذ مساعد بأكاديمية الفنون، المعهد العالي للموسيقى (الكونسرفتوار)، (قسم التأليف والنظريات) 2003.

· المؤهلات:

- بكالوريوس الفنون التطبيقية، قسم التصوير الضوئي، (جامعة حلوان)، 1983.

- بكالوريوس الصولفيج بتقدير إمتياز مع مرتبة الشرف، المعهد العالي للموسيقى بأكاديمية الفنون، 1986.

- بكالوريوس التأليف بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، المعهد العالي للموسيقى (الكونسرفتوار) بأكاديمية الفنون،1986.

- ماجستير في الفنون (أكاديمية الفنون)، 1989.

- دبلوم الدراسات العليا من جامعة جراتس (النمسا)، 1991.

- الدكتوراه من جامعة فيينا (النمسا)، 1996.

· الإصدارات:

- تأليف كتاب بعنوان "فن التوزيع الأوركسترالي"، صدر عن روز اليوسف، 2001.

- كتابة عدداً من المقالات في عدد من المجلات الثقافية مثل: عالم الفكر (الكويت)، والفنون الشعبية، وآفاق، وصحيفة القاهرة ... الخ (القاهرة)، (1998-2006).

· الإبداعات:

- إبتكر للتدوين الموسيقي أسلوباً جديداً طبقه في عدد من مؤلفاته، منها مؤلفة "مؤثرات" للفيولينة المنفردة، 1998.

- إبتدع عدداً من المؤلفات الموسيقية القائمة على صيغ متناهية المدد الزمنية، وتعتمد في بنائها على التركيز والإيجاز الشديد، نفذّها في أكثر من عمل، منها: متتابعة لأوركسترا وتري بعنوان "منمنمات" (1999).

- كتب عدداً من الألحان الموسيقية القائمة على عنصر الضجيج والمؤثرات الصوتية التي نسمعها في حياتنا اليومية، وظفها في عدد من الأعمال، أهمها: متتابعة إيقاعية لأدوات المطبخ (2001)، ودويتو لصولو فيولينة لاثنين من العازفين على فيولينة واحدة، بمصاحبة ماكينة خياطة (2002).

- إبتدع نوعاً من الموسيقى اصطلح عليه بـ "الموسيقى الفكاهية"، كتبها خصيصاً لعلاج الاكتئاب، منها عشرة اسكتشات كوميدية لكورال أكابيلا بعنوان "الحرف الساخن" (2003).

- أخرج أول عرض مسرحي موسيقي يعتمد على إعتبار أن الصوت هو (بطل العرض) بعنوان "فقاقيع هوا". عن نص نثري من تأليفه، قُدم في مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة (2004).

- وضع أسلوباً جديداً لموسيقى الباليه، يصاحب الرقص فيها مشاهد من الأفلام السينمائية، طبقَّه في باليه بعنوان "شفيقة ومتولي" للأوركسترا والكورال عن نص من تأليفه يْؤدَّى في أثناء عرض مشاهد من فيلم "دعاء الكروان" (2005).

- ألف متتابعة إيقاعية مكتوبة خصيصاً لمجموعة من الصم والبكم، قام بأدائها نخبة من تلاميذ مدرسة العباسية الصم والبكم على عدد من الأهوان النحاسية والخشبية المستخدمة في المطبخ المصري (2005).

- اشترك في مشروع دفاتر الأكاديمية الذي أنشأه أ.د. مدكور ثابت رئيس أكاديمية الفنون بدفتر "مشاهدة الصوت" من جزئين 2005.




([1]) الإلقاء المنغم "Recitative": أسلوب إلقائي، يعتمد على أداء جملة كلامية بشكل إيقاعي منتظم مع اقتصار الجانب اللحني في أدائها على بضعة نغمات موسيقية محدودة، تتراوح في الأغلب بين نغمة واحدة وثلاث نغمات فقط.

([2]) شَرُفَ – كاتب هذه السطور – في هذه الرحلة، بصحبة عدد من جهابذة الموسيقى والفنون الشعبية في مصر، اذكر منهم: د. أحمد علي مرسي، والراحلين: د. جمال عبد الرحيم، د. سمحة الخولي و أ. محمد الشال، وغيرهم.

([3]) يفضل الكاتب من خلال خبرته في هذا المجال، عدم تقديم أجراً على الإطلاق إلى مؤدي النداءة، وعند الضرورة فقط، يكتفى بإعطاء بعض الهدايا الرمزية، وذلك لأن الأجر سوف يفسد تلقائية الأداء، بالإضافة إلى إحتمالية تغيير أو إطالة "النداءة" لإعتبارات تجارية.

([4]) إرش فون هورنبوستل Ersch Von Hornbostel (1878-1935): عالم ألماني، ورائد من رواد علوم الموسيقى "Ethnomusicology"، وله عدة دراسات في موسيقات الشعوب، وهو الذي إخترع طريقة التدوين السمعي، التي إستخدمها بعد اختراع فونوغراف إديسون، وهي طريقة تعتمد على الأذن البشرية المجردة في تدوين الموسيقى الشعبية المسجلة، تدويناً تقليدياً.

([5]) يبدو أن طريقة هورنبوستل باقية، بالرغم من حدوث تطورات دائمة تطرأ على وسائط تسجيل وتشغيل المادة الصوتية، بدءً من الجراموفون ومروراً بأجهزة الريكوردر المتعددة الموديلات، ووصولاً إلى الحاسب الآلي والموبايل وكل الوسائط الرقمية الحديثة.

([6]) هي كلمة يونانية الأصل، تعني مقياس الوحدات، وهو أداة موسيقية تشبه بندول الساعة، يستخدمها الموسيقيون لقياس ولضبط إيقاع الأداء الموسيقي، دون تبطئ أو تأخير في سرعة المعزوفة "Tempo"، والمترونوم إخترعه النمساوي J. N. Mälzel 1816، ولذلك يطلق عليه مترونوم ملتسل Mälzel Metronome (M.M)

([7]) بالرغم من صعوبة تحديد قواعد مسبقة في عملية تناول الموسيقى الشعبية- في مؤلفة موسيقية ما- ، إلا أن المؤلف يُفضل عند تناول أي "مأثور صوتي" في موسيقاه، أن يحافظ على طبيعة منطقته الصوتية الأصلية بقدر الإمكان، فكلما ظل المأثور الشعبي كما هو على نمطه الخام، كلما نجح المؤلف في نقل روحه إلى موسيقاه.

([8]) يختلف مفهوم التراث الشعبي عن المأثورات الشعبية، فالتراث هو كل ما اندثر ولم يبقى منه غير ما تضمنته المراجع والسجلات، فهو في علم التاريخ، أما المأثورات فهي مازالت مواد فولكلورية حية.

(Home)


No comments: